القائمة الرئيسية

الصفحات

 شاطئ الرحيل (5)




و من هنا بدأت رحلة جديدة من رحلات شاطئ الرحيل، تلك الرحلة التي ظلَّ فيها صاحبُنا يتنقل - مُثقل الكتفين- بين بلدٍ قريبٍ له وبلد آخر بعيد عنه، راكباً تارةً دراجته أو جرارًا زراعياً - ملك أحد زملائه-، ومُترجِلاً تارةً أخرى، بين درسٍ هنا في الصباح ودرسٍ هناك في الظهيرةِ ودرسٍ يأتيه في المساء، بين صفحات كِتابٍ لمادةٍ علميةٍ مرة و صفحات كِتابٍ لمادةٍ أدبية مرةٍ أخرى، بين همٍّ أصابه في الحياة العامة وهمٍّ أصابه في الحياة الخاصة؛  ولهذا كله كان يمشي لا يرى مَن يمُرُّ بجواره أو مَن يقف بالطرقات - وهذا الأمر جعل الكثير يتهمه بالغرور والكِبْر-، قد كان دائمَ النظرِ إلى الأرض يَرقبها، شارد الذهن يلحقه، دائم التفكير في حال أبويه الذين أنهكتهما الحياة وكيف أنهما يُعانيان حتى يُوفران له الوقت والراحة اللازمين لعبور تلك المرحلة الثانوية؛




 فهذه هي الوالدة -حفظها الله ورعاها وأطال عمرها وحسَّن عملها-  كانت تستيقظُ دومًا عند أذان الفجر و بعد أداء الصلاة تقوم بجَمْعِ الحليب الطازج من الماشية الموجودة في حظيرة المنزل، ثم  تقوم بعد ذلك على عَجَلِ بتجهيز طعام الإفطار للوالد الذي كان يذهب إلى العمل عند تمام السادسة والنصف صباحا، ثم تذهب عند تمام السابعة بالماشية إلى الحقل حيث تقوم بخدمتها هناك وتقوم بتوفير الطعام اللازم لها وتجهيز المربط الخاص بها وتنظيفه، ثم تعود بعد كل ذلك عند الظهيرة حيث تقوم بتجهيز طعام الغداء للأب حين يعود من عمله ثم –في بعض الأوقات من العام حيث التوقيت الشتوي كان ما زال معمولا به هنا- كانت تعود مُسرعةً إلى الحقل مرةً أخرى لإطعام الماشية وإحضارها إلى المنزل ثم تقوم ليلاً - بعد إنهاء الأعمال المنزلية الأخرى- بحلبها وتجهيز العشاء للعائلة؛




وهذا هو  الوالد -رحمة الله تعالى عليه- كان يستيقظ في السادسة صباحا يتناول الإفطار ويتجهز للانطلاق في رحلته اليومية حيث كان يسير على الأقدام قُرابة الإثنين ونصف كيلو متر حتى يلحق بالقطار عند السابعة صباحا في قرية مجاورة ،  يذهب إلى العمل كعاملٍ بإحدى الشركات القومية بدوامٍ كليٍّ  ليعود عند الرابعة والربع عصرًا في ذات الطريق مرةً أخرى، وكان في التوقيت الصيفي يأتي ليأكل لقيمات قليلةٍ على عَجَلِ ثم يذهب مُسرعًا إلى الحقل لمتابعة أحوال الزرع وإطعام الماشية وإحضارها للمنزل؛




هذا كلُّه مُضافًا لأعباء الحياة العادية التي لا تنقضي و أيضًا مضافًا لحالتهما الصحية التي أضعفتها مراحل الحياة المختلفة؛




كان صاحبنا يرى كل ذلك بقلبه قبل عينيه، ويشعرُ بالأسى و الحزن تُجاههما ولكن ما باليد حيلة غير ذلك.


كان في كلُّ مرة يرى فيها تلك الأحداث المتكررة يشتدُّ الأمرُ عليه جداً، ولكن أقسى مرة من تلك المرات كانت هذه المرَّة! آهٍ من تلك المرَّة المُرَّة....


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع
    xxx -->